احـذر أن تبيع ضمــيرك .. !!
أ.حســــان أحمد العماري
يأتي
رجلان من المسلمين إلى النبي صلى الله عليه وسلم يختصمان في قطعة أرض ليس
لأحدٍ منهما بينة وكل واحدٍ منهما يدعي أنها له وقد ارتفعت أصواتهما فقال :
"إنكم
تختصمون إلي وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما
أقضي بينكم على نحو ما أسمع منكم، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه
فإنما يقتطع له قطعة من النار يأتي بها يوم القيامة"(البخاري/(6566) ..
عند
ذلك تنازل كل واحدٍ منهما عن دعواه فقد حرك رسول الله صلى الله عليه وسلم
في نفوسهما الإيمان وارتفع بهما إلى مستوى رائع من التربية الوجدانية وبناء
الضمير والتهذيب الخلقي للفرد؛ فكانت هذه التربية وبناء الضمير حاجزاً
لهما عن الظلم والحرام وهو الدافع إلى كل خير, فتقوى الله ومراقبته دليل
على كمال الإيمان، وسبب لحصول الغفران، ودخول الجنان، وبه يضبط السلوك
والتصرفات وتحفظ الحقوق وتؤدى الواجبات حتى وإن غابت رقابة البشر ووسائل
الضبط وقوانين العقوبات والجزاءات فتقوى الله ومراقبته والخوف منه
والاستعداد للقائه أقوى في نفس المسلم من كل شيء قال تعالى :
(أَلَمْ
تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ
مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا
خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا
أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ
بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [المجادلة/7]..
والضمير
هو تلك القوة الروحية التي تحكم مواقف الإنسان وتفكيره وهو منحة من الله
للإنسان يدله بها على الخير والشر وكيف يكسب الرضا والراحة النفسية..
ولذلكَ ضَربَ اللهُ مثلاً لذلكَ بيوسفَ -عليه السلامُ- حينما حجَزَهُ
ضميرُه عن الانجرافِ وراءَ الهوى وقال:
(( مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ)) (يوسف / 23)
إن
الدول والشعوب والحكومات لتسن القوانين وتوجد التشريعات وتحدد العقوبات
التي تكفل لها ولأفرادها الحياة الطيبة والآمنة فتحفظ الحقوق وتنجز الأعمال
وتؤدى الواجبات وتكافح الجرائم والاختلالات, ويعيش الفرد ينظر عندما يقدم
على عمل ما إلى موقف القانون والعقوبة المترتبة على ذلك فإذا وجدت وسائل
الرقابة البشرية التزم بذلك وإلا فإنه سرعان ما يتفلت ويتهرب ويتحايل على
هذا القانون .. أما في شريعة الإسلام إلى جانب ما شرعته من أحكام وحدود
وعقوبات فإنها سعت لتربية الفرد المسلم على يقظة الضمير والخوف من الله
ومراقبته وطلب رضاه حتى إذا غابت رقابة البشر وهمت نفسه بالحرام والإفساد
في الأرض تحرك ضميره الحي يصده عن كل ذلك ويذكره بأن هناك من لا يغفل ولا
ينام ولا ينسى, يحكم بين عباده بالعدل ويقتص لمن أساء وقصر وتعدى في الدنيا
والآخرة القائل سبحانه :
( وإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ) [الانفطار:10-12] ..
وقال تعالى:
(
وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً * اقْرَأْ كِتَابَكَ
كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً )[الإسراء:13-14].
إن
تربية الضمير وتقوية الوازع الديني في نفوس الناس فيه سعادة الأفراد
والمجتمعات والدول وبدونه لن يكون إلا مزيد من الشقاء والتحايل مهما تطورت
الأمم في قوانينها ودساتيرها وطرق ضبطها للجرائم و إدارة شؤون الناس فإنه
سيأتي يوم وتظهر ثغرات في هذه القوانين وبالتالي ما الذي يمنع الموظف أن
يرتشي والكاتب أن يزور والجندي أن يخل في عمله والطبيب أن يهمل في علاج
مريضه والمعلم أن يقصر في واجبه والقاضي أن يظلم في حكمه والمرأة أن تفرط
بواجبها و التاجر من أن يغش ويحتكر في تجارته ... هذا عثمان رضي الله عنه
في عام الرمادة وقد اشتد بالمسلمين الفقر والجوع جاءت تجارته من الشام ألف
بعير محملة بالتمر والزيت والزبيب فجاءه تجار المدينة , وقالوا له تبيعنا و
نزيدك الدرهم درهمين ؟ فقال عثمان بن عفان رضي الله عنه لهم لقد بعتها
بأكثر من هذا . فقالوا نزيدك الدرهم بخمسة ؟ فقال لهم عثمان رضي الله عنه
لقد زادني غيركم الدرهم بعشرة : فقالوا له فمن الذي زادك ؟ وليس في المدينة
تجار غيرنا ؟ فقال لهم عثمان رضي الله عنه: لقد بعتها لله ولرسوله فهي
لفقراء المسلمين ..
الله
أكبر ... ماذا لو لم يكن يحمل بين جوانحه ضمير المؤمن الحي لكانت هذه
الفرصة لا تعوض ليربح أموالاً طائلة ولو كانت على حساب البطون الجوعى
والأجساد العارية وآهات المرضى والثكالى وهموم أصحاب الحاجات ...
إنه
مهما خوف الناس وبعث في قلوبهم الرعب برقابة البشر فهي تسقط أمام رقابة
الذات ورقابة الله, وما تغيرت الحياة وحدث البلاء ووجدت الخيانة وانتشر
الظلم وذهب المعروف إلا يوم أن ضعفت رقابة الله في قلوب البشر ..
ذكرت صحيفة زونتاج الألمانية :
إن
صاحب مطعم صغير وهو مسلم تركي الأصل في منطقة الأناضول السياحية التركية
أعاد إلي زوجين ألمانيين مبلغ 200 ألف يورو نسياها في مطعمه وأوضحت الصحيفة
أن صاحب المطعم جميل إيردمير سلم حقيبة الأموال التي لم ير مثلها في حياته
على الفور إلى الشرطة التركية لتعيدها إلى صاحباها الذين عكر فقد المبلغ
عليهما صفو حياتهما وقال الزوجان إنهما أدركا فقد حقيبة أموالهما بعد ساعات
من مغادرتهما المطعم لكنها فشلا في تذكر المكان الذي نسياها فيه مما
جعلهما يفقدان الأمل في العثور عليها واستردادها من جديد قبل أن يستمعا إلى
الأخبار السارة من الشرطة.وأشار الزوجان إلى أن هذا السلوك من صاحب المطعم
عزز الانطباع المترسخ عندهما بما يتحلى به المسلمون والأتراك من أمانة
وصدق وغيرها من الخصائل الحميدة.ولفتت صحيفة بيلد أم زونتاج إلى أن صاحب
المطعم الذي يعول أسرة مكونة من زوجة وولدين رفض بغضب قبول 500 يورو قدمها
له الزوجان الألمانيان كمكافأة وتعبيراً عن امتنانهما لاستردادهم حقيبة
الأموال ... وحول رده للحقيبة أوضح أنه يفضل أن يقف في مطعمه لساعات طويلة
ليبيع شطيرة بستين سنتاً ( وهو مبلغ زهيد )على أن يشتري لأطفاله قطعة خبز
من مال لا يحل له .. يا لروعة هذا الضمير الذي لا يتأثر بظروف الحال
والزمان ولا يضعف أمام الشهوات والشبهات ولا يضعف عند الشدائد والمدلهمات
ولا ينحني عند الفاقة وشدة الحاجات.
إن
ضمير الإنسان إذا لم يكن موصولاً بالله فتجد صاحبه محافظاً على العبادات
والطاعات والذكر وقراءة القرآن .. فإنه سيأتي يومٌ ويعرض ذلك الضمير للبيع
في سوق الحياة وعندما يباع الضمير ستجد ذلك الصاحب والصديق الذي ائتمنته
على مالك قد خان الأمانة وتنكر لك .. عندم يباع الضمير ستجد مَن يعطيك
شهادة تعليمية دون أن تدرس يوماً واحداً .. وستجد شاهداً باع ضميره و زور أحداث شهادته و حول الظالم إلى مظلوم و المظلوم إلى ظالم .. و اختل
واقع الحياة و ضاع مصير الإنسان ... وعندما يباع الضمير ستجد الطبيب الذي
يهمل فحص مرضاه في المستشفى ليضطرهم للذهاب إليه في عيادته الخاصة .. وستجد
ذلك المقاول الذي يغش في عمله ويعرض الكثير للخطر بسبب حرصه للكسب الكثير
والربح العاجل .. بل ستجد مَن يخون أمته ويبيع وطنه ويدمِّر مجتمعه ..
وستجد من يهمل في واجباته ويتخلى عن مسئولياته ..
فلنحذر من الغفلة وبيع ضمائرنا ولنتذكر قوة الله وقدرته وعلمه ولنتذكر أن هناك جنة وناراً ...
قال نافع :
خرجت
مع ابن عمر في بعض نواحي المدينة ومعه أصحاب له فوضعوا سفرة فمر بهم راع
.. فقال له عبد الله : هلم يا راعي فكل معنا فقال : إني صائم .. فقال له
عبد الله : في مثل هذا اليوم الشديد حره وأنت في هذه الشعاب في آثار هذه
الغنم وبين الجبال ترعى هذه الغنم وأنت صائم, فقال الراعي : أبادر أيامي
الخالية فعجب ابن عمر .. وقال : هل لك أن تبيعنا شاة من غنمك نجتزرها
ونطعمك من لحمها ونعطيك ثمنها .. قال : إنها ليست لي إنها لمولاي, قال :
فما عسى أن يقول لك مولاك إن قلت أكلها الذئب ...؟ ! فمضى الراعي وهو رافع
إصبعه إلى السماء وهو يقول فأين الله ؟؟؟ قال : فلم يزل ابن عمر يقول :
فأين الله .. فلما قدم المدينة بعث إلى سيده فاشترى منه الراعي والغنم
فأعتق الراعي ووهب له الغنم, وقال له إن هذه الكلمة أعتقتك في الدنيا ..
وأسأل الله أن تعتقك يوم القيامة) (صفة الصفوة ( 2 / 188)
إن
نهضة الأمم والشعوب وتطورها ورقيها وصلاح أمرها، تتوقف على قوة الضمائر
الحية في نفوس أبنائها وإخلاصهم في عملهم وتجويد أدائهم وشعورهم بالمسئولية
تجاه واجباتهم في كل جوانب الحياة .. فلنكن جميعاً أصحاب ضمائر نبني بها
دنيا و نعمر بها آخـــرة .
|
0 التعليقات:
إرسال تعليق